سورة فاطر - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (فاطر)


        


{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)}
{مَن كَانَ يُرِيدُ العزة} الشرف والمنعة من قولهم أرض عزاز أي صلبة وتعريفها للجنس، والآية في الكافرين كانوا يتعززون بالأصنام كما قال تعالى: {واتخذوا مِن دُونِ الله ءالِهَةً لّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزًّا} [مريم: 81] والذين آمنوا بألسنتهم من غير مواطأة قلوبهم كانوا يتعززون بالمشركين كما قال سبحانه: {الذين يَتَّخِذُونَ الكافرين أَوْلِيَاء مِن دُونِ المؤمنين أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العزة} [النساء: 139] ومن اسم شرط وما بعده فعل الشرط، والجمع بين كان ويريد للدلالة على دوام الإرادة واستمرارها، وقوله تعالى: {فَلِلَّهِ العزة جَمِيعًا} دليل الجواب ولا يصح جعله جوابًا من حيث الصناعة لخلوه عن ضمير يعود على من، وقد قالوا: لابد أن يكون في جملة الجواب ضمير يعود على اسم الشرط إذا لم يكن ظرفًا، والتقدير من كان يريد العزة فليطلبها من الله تعالى فلله وحده لا لغيره العزة فهو سبحانه يتصرف فيها كما يريد فوضع السبب موضع المسبب لأن الطلب ممن هي له وفي ملكه جميعها مسبب عنه، وتعريف العزة للاستغراق بقرينة {جَمِيعًا} وانتصابه على الحال، والمراد عزة الدنيا والآخرة، وتقديم الخبز على المبتدأ للاختصاص كما أشرنا إليه.
ولا ينافي ذلك قوله تعالى: {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] لأن ما لله تعالى وحده العزة بالذات وما للرسول صلى الله عليه وسلم العزة بواسطة قربه من الله تعالى وما للمؤمنين العزة بواسطة الرسول عليه الصلاة والسلام، وكأنه للإشارة إلى ذلك أعيد الجار، وقدر بعضهم الجواب فليطع الله تعالى، وأيد بما رواه أنس كما في مجمع البيان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن ربكم يقول كل يوم أنا العزيز فمن أراد عز الدارين فليطع العزيز» ومن قدر فليطلبها من الله تعالى قال: إن الطلب منه تعالى إنما يكون بالطاعة والانقياد، وعن الفراء المعنى من كان يريد علم العزة أي القدرة على القهر لمن هي فلينسبها إلى الله تعالى فهي له تعالى وحده، وقيل: المعنى من كان يريد العزة أي الغلبة فهو مغلوب لأن الغلبة لله تعالى وحده ولا تتم إلا به عز وجل ونسب هذا إلى مجاهد، وقيل: تعريف العزة الأولى للاستغراق أيضًا أو للعهد والمراد الفرد الكامل، والمعنى من كان يريد العزة جميعها أو الفرد الكامل منها وهي العزة التي لا يشوبها ذلة من وجه فهو لا ينالها فإنها لله تعالى وحده، وهذا القول أحسن من القولين قبله، وأظهر الأقوال عندي الأول وهو منسوب إلى قتادة، وقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب} إلى آخره كالبيان لطريق تحصيل العزة وسلوك السبيل إلى نيلها وهو الطاعة القولية والفعلية، وقيل: بيان لكون العزة كلها لله تعالى وبيده سبحانه لأنها بالطاعة وهي لا يعتد بها ما لم تقبل، وقيل: استئناف كلام، وعلى الأول المعول.
و {الكلم} اسم جنس جمعي عند جمع واحده كلمة، والمراد بالكلم الطيب على ما في الكشاف والبحر عن ابن عباس لا إله إلا الله، ومعنى كونه طيبًا على ما قيل أن العقل السليم يستطيبه ويستلذه لما فيه من الدلالة على التوحيد الذي هو مدار النجاة والوسيلة إلى النعيم المقيم أو يستلذه الشرع أو الملائكة عليهم السلام، وقيل: إنه حسن يقبله العقل ولا يرده، وإطلاق الكلم على ذلك إن كان واحده الكلمة بالمعنى الحقيقي ظاهر لتضمنه عدة كلمات لكن في وصفه بالطيب بالنظر إلى غير الاسم الجليل خفاء؛ ولعل ذلك باعتبار خصوصية التركيب، وإن كان واحده هنا الكلمة بالمعنى المجازي كما في قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ} [الأنعام: 115]؛ و{كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون: 100] وقوله عليه الصلاة والسلام: «أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد» وقولهم لا إله إلا الله كلمة التوحيد إلى ما لا يحصى كثرة فإطلاق الكلم على ذلك لتعدده بتعدد القائل. وكأن القرينة على إرادة المعنى المجازي للكلمة الصادق على الكلام الوصف بالطيب بناءً على أن ما يستطيب ويستلذ هو الكلام دون الكلمة العرية عن إفادة حكم تنبسط منه النفس أو تنقبض.
أو يقال: إن كثرة إطلاق الكلمة على الكلام وشيوعه فيما بينهم حتى قال بعضهم كما نقل الحمصي في حواشي التصريح عن بعض شراح الآجرومية أنه حقيقية لغوية تغني عن القرينة، وأخرج ابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم. والبيهقي في الأسماء والصفات عن الحبر أنه فسر الكلم الطيب بذكر الله تعالى، وقيل: هو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، وهو ظاهر أثر أخرجه ابن مردويه. والديلمي عن أبي هريرة.
وقيل: هو سبحان الله وبحمده والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وتبارك الله، وهو ظاهر أثر أخرجه جماعة عن ابن مسعود، وأخرجه ابن أبي حاتم عن شهر بن حوشب أنه القرآن، وقيل: هو الثناء بالخير على صالحي المؤمنين، وقيل: هو الدعاء الذي لا ظلم فيه، وقال الإمام وبه اقتدى: المختار أنه كل كلام هو ذكر الله تعالى أو هو لله سبحانه كالنصيحة والعلم، وأما ما أفاده كلام الملا صدرا في أسفاره من أنه النوس الطاهرة الزكية فإنه تطلق الكلمة على النفس إذا كانت كذلك كما قال تعالى في عيسى عليه السلام: {وَكَلِمَتُهُ ألقاها إلى مَرْيَمَ} [النساء: 171] فلا ينبغي أن يعد في عداد أقوال المفسرين كما لا يخفى؛ وصعود الكلم إليه تعالى مجاز مرسل عن قبوله بعلاقة اللزوم أو استعارة بتشبيه القبول بالصعود، وجوز أن يجعل الكلم مجازًا عما كتب فيه بعلاقة الحلول أو يقدر مضاف أي إليه يصعد صحيفة الكلم الطيب أو يشبه وجوده الخارجي هنا ثم الكتابي في السماء بالصعود ثم يطلق المشبه به على المشبه ويشتق منه الفعل على ما هو المعروف في الاستعارة التبعية، وقيل: لا مانع من اعتبار حقيقة الصعود للكلم فلله تعالى تجسيد المعاني، وكون الصعود إليه عز وجل من المتشابه والكلام فيه شهير، والكلام بعد ذلك كناية عن قبوله والاعتناء بشأن صاحبه، وتقديم الجار والمجرور لإفادة الحصر، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه.
وابن مسعود رضي الله تعالى عنه. والسلمي. وإبراهيم {يَصْعَدُ} من أصعد الكلام الطيب بالنصب، وقال ابن عطية: وقرأ الضحاك {يَصْعَدُ} بضم الياء ولم يذكر مبنيًا للفاعل ولا مبنيًا للمفعول ولا إعراب ما بعده، وفي الكشاف وقرئ {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب} على البناء للمفعول و{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب} من أصعد والمصعد هو الرجل أي يصعد إلى الله عز وجل الكلم الطيب، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما {إِلَيْهِ يَصْعَدُ} من صعد الكلام بالرفع.
{والعمل الصالح يَرْفَعُهُ} مبتدأ وخبر على المشهور، واختلف في فاعل {يَرْفَعُ} فقيل ضمير يعود على العمل الصالح وضمير النصب يعود على {الكلم} أي والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب وروي ذلك عن ابن عباس. والحسن. وابن جبير. ومجاهد. والضحاك. وشهر بن حوشب على ما أخرجه عنه سعيد بن منصور وغيره.
وأخرج ابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم. والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس أنه فسر العمل الصالح بأداء الفرائض ثم قال: فمن ذكر الله تعالى وأدى فرائضه حمل عمله ذكر الله تعالى فصعد به إلى الله تعالى ومن ذكر الله تعالى ولم يؤد فرائضه رد كلامه على عمله وكان عمله أولى به، وتعقب ذلك ابن عطية فقال: هذا قول يرد معتقد أهل السنة ولا يصح عن ابن عباس، والحق أن العاصي بترك فرائضه إذا ذكر الله تعالى وقال كلامًا طيبًا كتب له ذلك وتقبل منه وعليه وزر ترك الفرائض، والله تعالى يتقبل من كل من اتقى الشرك انتهى.
ولعل المراد برفع العمل الصالح الكلم الطيب رفع قدره وجعله بحيث يترتب عليه من الثواب ما لم يترتب عليه إذا كان بلا عمل، وحديث: «لا يقبل الله قولًا إلا بعمل ولا يقبل قولًا وعملًا إلا بنية ولا يقبل قولًا وعملًا ونية إلا بإصابة السنة» المذكور في الكشاف لا أظن صحته، وقيل: إنه لو سلم صحته فالمراد نفي القبول التام؛ ويجوز أن يكون المراد برفعه إياه تحقيقه وتقويته وذلك باعتبار أن الكلام الطيب هو الإيمان فإنه لا شك أن العمل الصالح يثبت الإيمان ويحققه بإظهار آثاره إذ به يعلم التصديق القلبي، وقيل: الفاعل ضمير يعود على الكلم الطيب وضمير النصب يعود على العمل الصالح أي يرفع الكلم الطيب العمل الصالح.
ونسب أبو حيان هذا القول إلى أبي صالح. وشهر بن حوشب، وأيد بقراءة عيسى. وابن أبي عبلة {والعمل الصالح} بالنصب على الاشتغال، وفيه بحث لعدم تعين ضمير {الكلم} للفاعلية عليها، ومعنى رفع الكلم الطيب العمل الصالح قيل أن يزيده بهجة وحسنًا. ومن فسر الكلم الطيب بالتوحيد قال: معنى ذلك جعله مقبولًا فإن العمل لا يقبل إلا بالتوحيد، وقيل: الفاعل ضميره تعالى وضمير النصب يعود على العمل، وأخرج ذلك ابن المبارك عن قتادة أي والعمل الصالح يرفعه الله تعالى ويقبله. قال ابن عطية: هذا أرجح الأقوال عندي، وقيل: ضمير الفاعل يعود على العمل وكذا الضمير المنصوب والكلام على حذف مضاف أي والعمل الصالح يرفع عامله ويشرفه، ونسب ذلك أبو حيان إلى ابن عباس ثم قال: ويجوز عندي أن يكون {العمل} معطوفًا على {يَصْعَدُ الكلم} و{يَرْفَعُهُ} استئناف أخبار أي يرفعهما الله تعالى، ووحد الضمير لاشتراكهما في الصعود والضمير قد يجري مجرى اسم الإشارة فيكون لفظه مفردًا والمراد به التثنية فكأنه قيل: ليس صعودهما من ذاتهما بل ذلك برفع الله تعالى إياهما اه، وهو خلاف الظاهر جدًا، ومثله ما نسبه إلى ابن عباس وأنا لا أظن صحة نسبته إليه، وعلى التسليم يحتمل أنه رضي الله تعالى عنه أراد بقوله العمل الصالح يرفع عامله ويشرفه بيان ما تشير إليه الآية في الجملة. والذي يتبادر إلى ذهني من الآية ما روي عن قتادة واختاره ابن عطية، وتخصيص العمل الصالح برفع الله تعالى إياه على ذلك قيل لما فيه من الكلفة والمشقة إذ هو الجهاد الأكبر، وظاهر هذا أن العمل أشرف من الكلام ولا كلام في ذلك إذا أريد بالعمل الصالح ما يشمل العمل القلبي كالتصديق، ولعل الكلام عليه نظير قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاء موسى لميقاتنا} [الأعراف: 143] وقوله سبحانه: {سُبْحَانَ الذى أسرى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] وكلام الإمام صريح في أن الكلم الطيب المفسر بالذكر أشرف من العمل حيث جعل صعود الكلم بنفسه دليل ترجيحه على العمل الذي يرفعه غيره، وقال في وجه ذلك: الكلام شريف فإن امتياز الإنسان عن كل حيوان بالنطق والعمل حركة وسكون يشترك فيه الإنسان وغيره والشريف إذا وصل إلى باب الملك لا يمنع ومن دونه لا يجد الطريق إلا عند الطلب، ويدل على هذا أن الكافر إذا تكلم بكلمة الشهادة أمن من عذاب الدارين إن كان ذلك عن صدق وأمن في نفسه ودمه وحرمه في الدنيا إن كان ظاهرًا ولا كذلك العمل بالجوارح، وأيضًا أن القلب هو الأصل وما فيه لا يظهر إلا باللسان وما في اللسان لا يبين صدقه إلا بالفعل فالقول أقرب إلى القلب من الفعل فيكون أشرف منه، اه وفي القلب منه شيء فتدبر.
{والذين يَمْكُرُونَ السيئات} أي المكرات السيآت أو أصناف المكرات السيآت على أن {السيآت} صفة لمحذوف وليس مفعولًا به ليمكرون لأن مكر لازم، وجوز أن يكون مفعولًا على تضمين يقصدون أو يكسبون وعلى الأول فيه مبالغة للوعيد الشديد على قصد المكر أو هو إشارة إلى عدم تأثير مكرهم، والموصول مبتدأ وجملة قوله تعالى: {والكافرون لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} خبره أي لهم بسبب مكرهم عذاب شديد لا يقادر قدره ولا يعبأ بالنسبة إليه بما يمكرون. والآية على ما روي عن أبي العالية في الذين مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الندوة كما قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال: 30] والمضارع لحكاية الحال الماضية، ووضع اسم الإشارة موضع ضميرهم في قوله سبحانه: {وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ} للإيذان بكمال تميزهم بما هم عليه من الشر والفساد عن سائر المفسدين واشتهارهم بذلك، وما فيه من معنى البعد للتنبيه على ترامي أمرهم في الطغيان وبعد منزلتهم في العدوان أي ومكر أولئك المفسدين المشهورين {هُوَ يَبُورُ} أي يفسد، وأصل البوار فرط الكساد أو الهلاك فاستعير هنا للفساد عدم التأثير لأن فرط الكساد يؤدي إلى الفساد كما قيل كسد حتى فسد أو لأن الكاسد يكسد في الغالب لفساده ولأن الهالك فاسد لا أثر له، و{مَكَرَ} مبتدأ خبره جملة {هُوَ يَبُورُ} وتقديم الضمير للتقوى أو الاختصاص أي مكرهم هو يفسد خاصة لا مكرنا بهم، وأجاز الحوفي. وأبو البقاء كون الخبر جملة {يَبُورُ} و{هُوَ} ضمير فصل. وتعقبه في البحر بأن ضمير الفصل لا يكون ما بعده فعلًا ولم يذهب إلى ذلك أحد فيما علمنا إلا عبد القاهر الجرجاني في شرح الإيضاح له فإنه أجاز في كان زيد هو يقوم أن يكون هو فصلًا. ورد ذلك عليه.
وجوز أبو البقاء أيضًا كون {هُوَ} تأكيدًا للمبتدأ، والظاهر ما قدمناه، وقد أبار الله تعالى أولئك الماكرين بعد إبارة مكرهم حيث أخرجهم من مكة وقتلهم وأثبتهم في قليب بدر فجمع عليهم مكراتهم الثلاث التي اكتفوا في حقه عليه الصلاة والسلام بواحدة منهن وحقق عز وجل فيهم قوله سبحانه: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله والله خَيْرُ الماكرين} [آل عمران: 54] وقوله تعالى: {وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43] ووجه ارتباط الآية بما قبلها على ما ذكره شيخ الإسلام أنها بيان لحال الكلم الخبيث والعمل السيء وأهلهما بعد بيان حال الكلم الطيب والعمل الصالح.
وقال في الكشف: كأنه لما حصر سبحانه العزة وخصها به تعالى يعطيها من يشاء وأرشد إلى نيل ما به ينال ذلك المطلوب ذكر على سبيل الاستطراد حال من أراد العزة من عند غيره عز وجل وأخذ في إهانة من أعزه الله تعالى فوق السماكين قدرًا وما رجع إليهم من وبال ذلك كالاستشهاد لتلك الدعوى وهو خلاصة ما ذكره الطيبي في وجه الانتظام، وروي عن مجاهد.
وسعيد بن جبير. وشهر بن حوشب أن الآية في أصحاب الرياء وهي متصلة بما عندها على ما روي عن شهر حيث قال: {والذين يَمْكُرُونَ} أي يراؤن {شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} هم أصحاب الرياء عملهم لا يصعد، وقال الطيبي: إن الجملة على هذه الرواية عطف على جملة الشرط والجزاء أعني قوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ العزة} إلخ فيجب حينئذٍ مراعاة التطابق بين القرينتين والتقابل بين الفقرتين بحسب الإمكان بأن يقدر في كل منهما ما يحصل به التقابل بدلالة المذكور في الأولى على المتروك في الأخرى وبالعكس اه ولا يخفى بعده، وأيًا ما كان فالمضارع للاستمرار التجددي.


{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)}
{والله خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ} دليل آخر على صحة البعث والنشور أي خلقكم ابتداءً منه في ضمن خلق آدم عليه السلام خلقًا إجماليًا {ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} أي ثم خلقكم منها خلقًا تفصيليًا {ثُمَّ جَعَلَكُمْ أزواجا} أي أصنافًا ذكرانًا وإناثًا كما قال سبحانه: {أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَانًا وإناثا} [الشورى: 50] وأخرجه ابن أبي حاتم عن السدي، وأخرج هو وغيره عن قتادة أنه قال قدر بينكم الزوجية وزوج بعضكم بعضًا {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} حال من الفاعل ومن زائدة أي إلا ملتبسة بعلمه تعالى ومعلومية الفاعل راجعة إلى معلومية أحواله مفصلة ومنها حال ما حملته الأنثى ووضعته فجعله من ذلك أبلغ معنى وأحسن لفظًا من جعله من المفعول أعني المحمول والموضوع لأن المفعول محذوف متروك كما صرح به الزمخشري في حم السجدة، وجعله حالًا من الحمل والوضع أنفسهما خلاف الظاهر {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ} أي من أحد أي وما يمد في عمر أحد وسمي معمرًا باعتبار الأول نحو {إِنّى أَرَانِى أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36] ومن قتل قتيلًا على ما ذكر غير واحد وهذا لئلا يلزم تحصيل الحاصل، وجوز أن يقال لأن {يُعَمَّرُ} مضارع فيقتضي أن لا يكون معمرًا بعد ولا ضرورة للحمل على الماضي {وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} الضمير عائد على معمر آخر نظير ما قال ابن مالك في عندي درهم ونصفه أي نصف درهم آخر، ولا يضر في ذلك احتمال أن يكون المراد مثل نصفه لأنه مثال وهو استخدام أو شبيه به وإلى ذلك ذهب الفراء وبعض النحويين ولعله الأظهر، وفسروا المعمر بالمزاد عمره بدليل ما يقابله من قوله تعالى: {وَلاَ يُنقَصُ} إلخ وهو الذي دعاهم إلى إرجاع الضمير إلى نظير المذكور دون عينه ضرورة أنه لا يكون المزيد في عمره منقوصًا من عمره، وقيل: عليه هب أن مرجع الضمير معمر آخر أليس قد نسب النقص في العمر إلى معمر وقد قلتم إنه المزاد عمره. أجيب بأن الأصل وما يعمر من أحد فسمي معمرًا باعتبار ما يؤول إليه وعاد الضمير باعتبار الأصل المحول عنه فمآل ذلك ولا ينقص من عمر أحد أي ولا يجعل من ابتداء الأمر ناقصًا فهو نظير قولهم ضيق فم الركية، وقال آخرون: الضمير عائد على المعمر الأول بعينه والمعمر هو الذي جعل الله تعالى له عمرًا طال أو قصر؛ ولا مانع أن يكون المعمر ومن ينقص من عمره شخصًا واحدًا والمراد بنقص عمره ما يمر منه وينقضي مثلًا يكتب عمره مائة سنة ثم يكتب تحته مضى يوم مضى يومان وهكذا حتى يأتي إلخ وروي هذا عن ابن عباس.
وابن جبير. وأبي مالك وحسان بن عطية. والسدي، وقيل عناه:
حياتك أنفاس تعد فكلما *** مضى نفس منها انتقصت به جزأ
وقيل الزيادة والنقص في عمر واحد باعتبار أسباب مختلفة أثبتت في اللوح كما ورد في الخبر الصدقة تزيد في العمر فيجوز أن يكون أحد معمرًا أي مزادًا في عمره إذا عمل عملًا وينقص من عمره إذا لم يعمله، وهذا لا يلزم منه تغيير التقدير لأنه في تقديره تعالى معلق أيضًا وإن كان ما في علمه تعالى الأزلي وقضائه المبرم لا يعتريه محو على ما عرف عن السلف ولذا جاز الدعاء بطول العمر.
وقال كعب: لو أن عمر رضي الله تعالى عنه دعا الله تعالى أخر أجله، ويعلم من هذا أن قول ابن عطية: هذا قول ضعيف مردود يقتضي القول بالأجلين كما ذهبت إليه المعتزلة ليس بشيء، ومن العجيب قول ابن كمال: النظر الدقيق يحكم بصحة أن المعمر أي الذي قدر له عمر طويل يجوز أن يبلغ ذلك العمر وأن لا يبلغ فيزيد عمره على الأول وينقص على الثاني ومع ذلك لا يلزم التغيير في التقدير لأن المقدر في كل شخص هو الأنفاس المعدودة لا الأيام المحدودة والأعوام الممدودة ثم قال: فافهم هذا السر العجيب وكتب في الهامش حتى ينكشف لك سر اختيار حبس النفس ويتضح وجه صحة قوله عليه الصلاة والسلام: «إن الصدقة والصلة تعمران الديار وتزيدان في الأعمار» اه. وتعقبه الشهاب الخفاجي بأنه مما لا يعول عليه عاقل ولم يقل به أحد غير بعض جهلة الهنود مع أنه مخالف لما ورد في الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم. والنسائي. وابن أبي شيبة. وأبو الشيخ عن عبد الله بن مسعود من قول النبي صلى الله عليه وسلم لأم حبيبة وقد قالت: اللهم امتعني بزوجي النبي صلى الله عليه وسلم وبأبي أبي سفيان وبأخي معاوية، سألت الله تعالى لآجال مضروبة وأيام معدودة الحديث وأطال الجلبي في رده وهو غني عنه اه.
وقال بعضهم: يجوز أن لا يبلغ من قدر له عمر طويل ما قدر له بأن يغير ما قدر أولًا بتقدير آخر ولا حجر على الله تعالى، ويشير إلى ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في حديث التراويح «خشيت أن تفرض عليكم» وقوله صلى الله عليه وسلم في دعاء القنوت «وقنى شر ما قضيت» وخوفه عليه من الله تعالى آلاف آلاف صلاة وسلام من قيام الساعة إذا اشتدت الريح مع إخباره بأن بين يديها خروج المهدي والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها إلى غير ذلك مما لم يحدث بعد، وغاية ما يلزم من ذلك تغير المعلوم ولا يلزم منه تغير العلم على ما بين في موضعه وعلى هذا لا إشكال في خبر:«الصدقة تزيد في العمر» ويتضح أمر فائدة الدعاء، وما يحكي عن بعضهم من نفي القضاء المبرم يرجع إليه، وقد رأيت كراسة لبعض الأفاضل أطال الكلام فيها لتشييد هذا القول وتثبيت أركانه، والحق عندي أن ما في العلم الأزلي المتعلق بالأشياء على ما هي عليه في نفس الأمر لا يتغير ويجب أن يقع كما علم وإلا يلزم الانقلاب، وما يتبادر منه خلاف ذلك إذا صح مؤول، وخبر «الصدقة تزيد في العمر» قيل إنه خبر آحاد فلا يعارض القطعيات، وقيل المراد أن الصدقة وكذا غيرها من الطاعات تزيد فيما هو المقصود الأهم من العمر وهو اكتساب الخير والكمال والبركة التي بها بها تستكمل النفوس الإنسانية فتفوز بالسعادة الأبدية، والدعاء حكمه حكم سائر الأسباب من الأكل والشرب والتحفظ من شدة الحر والبرد مثلًا ففائدته كفائدتها، وقيل هو لمجرد إظهار الاحتياج والعبودية فليتدبر.
وقيل الضمير للمعمر والنقص لغيره أي ولا ينقص من عمر المعمر لغيره بأن يعطى له عمر ناقص من عمره، وقيل الضمير للمنقوص من عمره وهو وإن لم يصرح به في حكم المذكور كما قيل:
وبضدها تتبين الأشياء ***
فيكون عائدًا على ما علم من السياق أي ولا ينقص من عمر المنقوص من عمره بجعله ناقصًا.
وقرأ الحسن. وابن سيرين. وعيسى {وَلاَ يُنقَصُ} بالبناء للفاعل وفاعله ضمير المعمر أو {عُمُرِهِ} و{مِنْ} زائدة في الفاعل وإن كان متعديًا جاز كونه ضمير الله تعالى. وقرأ الأعرج {مِنْ عُمُرِهِ} بسكون الميم {إِلاَّ فِى كتاب} عن ابن عباس هو اللوح المحفوظ، وجوز أن يراد به صحيفة الإنسان فقد أخرج ابن المنذر. وابن أبي حاتم عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم بأربعين أو بخمس وأربعين ليلة فيقول يا رب أشقي أم سعيد أذكر أم أنثى فيقول الله تعالى ويكتب ثم يكتب عمله ورزقه وأجله وأثره ومصيبته ثم تطوى الصحيفة فلا يزاد فيها ولا ينقص منها» وجوز أيضًا أن يراد به علم الله عز وجل، وذكر في ربط الآيات إن قوله تعالى: {والله خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ} إلخ مساق للدلالة على القدرة الكاملة وقوله سبحانه: {مَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى} إلخ للعلم الشامل وقوله عز وجل: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ} إلخ لإثبات القضاء والقدر، والمعنى وما يعمر منكم خطابًا لأفراد النوع الإنساني وأيد بذلك الوجه الأول من أوجه {وَمَا يُعَمَّرُ} إلخ {إِنَّ ذلك} أي ما ذكر من الخلق وما بعده مع كونه محارًا للعقول والأفهام {عَلَى الله يَسِيرٌ} لاستغنائه تعالى عن الأسباب فكذلك البعث والنشور.


{وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)}
{وَمَا يَسْتَوِى البحران هذا عَذْبٌ} طيب {فُرَاتٌ} كاسر العطش ومزيله.
وقال الراغب: الفرات الماء العذب يقال للواحد والجمع، ولعل الوصف على هذا على طرز أسود حالك وأصفر فاقع {سَائِغٌ شَرَابُهُ} سهل انحداره لخلوه مما تعافه النفس. وقرأ عيسى {سيغ} كميت بالتشديد، وجاء كذلك عن أبي عمرو. وعاصم، وقرأ عيسى أيضًا {سيغ} كميت بالتخفيف {فُرَاتٌ وهذا مِلْحٌ} متغير طعمه التغير المعروف، وقرأ أبو نهيك. وطلحة {مِلْحٌ} بفتح الميم وكسر اللام، قال أبو الفتح الرازي: وهي لغة شاذة، وجوز أن يكون مقصورًا من مالح للتخفيف، وهو مبني على ورود مالح والحق وروده بقلة وليس بلغة رديئة كما قيل.
وفرق الإمام بين الملح والمالح بأن الملح الماء الذي فيه الطعم المعروف من أصل الخلقة كماء البحر والمالح الماء الذي وضع فيه ملح فتغير طعمه ولا يقال فيه إلا مالح ولم أره لغيره، وقال بعضهم: لم يرد مالح أصلًا وهو قول ليس بالمليح {أُجَاجٌ} شديد الملوحة والحرارة من قولهم أجيج النار وأجتها، ومن هنا قيل هو الذي يحرق لوحته، وهذا مثل ضرب للمؤمن والكافر، وقوله تعالى: {وَمِن كُلّ} أي من كل واحد منهما {تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} أي غضا جديدًا وهو السمك على ما روي عن السدى، وقيل الطير والسمك واختار كثير الأول، والتعلير عن السمك باللحم مع كونه حيوانًا قيل للتلويح بانحصار الانتفاع به في الأكل، ووصفه بالطراوة للاشعار بلطافته والتنبيه على المسارعة إلى أكله لئلا يتسارع إليه الفساد كما ينبىء عنه جعل كل من البحرين مبدأ كله.
واستدل مالك. والثوري بالآية حيث سمي فيها السمك لحما على حنث من حلف لا يأكل لحمًا وأكل سمكًا، وقال غيرهما: لا يحنث لأن مبني الأيمان على العرف وهو فيه لا يسمى لحما ولذلك لا يحنث من حلف لا يركب دابة فركب كافرًا مع أن الله تعالى سماه دابة في قوله سبحانه: {إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الذين كَفَرُواْ} [الأنفال: 55] ولا يبعد عندي أن يراد بلحمًا لحم السمك ودعوى التلويح بانحصار الانتفاع بالسمك في الأكل لا أظنها تامّة {وَتَسْتَخْرِجُونَ} ظاهره ومن كل تستخرجون {حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} والحلية التي تستخرج من البحر الملح اللؤلؤ والمرجان ويابس ذلك الرجال والنساء وإن اختلفت كيفية اللبس، أو يقال عبر عن لبس نسائهم بلبسهم لكونهن منهم أو لكون لبسهن لأجلهم، ولا نعلم حلية تستخرج من البحر العذب، ولا يظهر هنا اعتبار إسناد ما للبعض إلى الكل كما اعتبر ذلك في قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] وكون بعض الضخور التي في مجاري السيول قد تكسر فيوجد فيها ماس وهو حلية تلبس إن صح لا ينفع اعتباره هنا إذ ليس فيه استخراج الحلية من البحر العذب ظاهرًا، وقيل: لا يبعد أن تكون الحلية المستخرجة من ذلك عظام السمك التي يصنع منها قبضات للسيوف والخناجر مثلًا فتحمل ويتحلى بها، وفيه ما فيه لا سيما إذا كانت الحلية كالحلى ما يتزين به من مصنوع المعدنيات أو الحجارة، وقال الخفاجي: لا مانع من أن يخرج اللؤلؤ من المياه العذبة وإن لم نره، ولا يخفى ما فيه من العبد.
وذهب بعض الأجلة للخلاص من القيل والقال أن المراد وتستخرجون من البحر الملح خاصة حلية تلبسونها ويشعر به كلام السدى يحتمل ثلاثة أوجه، الأول أنه استطراد في صفة البحرين وما فيهما من النعم والمنافع.
والثاني أنه تتميم وتكميل للتمثيل لتفضيل المشبه به على المشبه وليس من ترشيح الاستعارة كما زعم الطيبي في شيء بل إنما هو استدارك لدعوى الاشتراك بين المشبه والمشبه به يلزم منه أن يكون المشبه أقوى وهذا الاستدراك مخصوص بالملح، وإيضاحه أنه شبه المؤمن والكافر بالبحرين ثم فضل الأجاج على الكافر بأنه قد شارك الفرات في منافع والكافر خلو من النفع فهو على طريقة قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذلك فَهِىَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74] ثم قال سبحانه: {وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الانهار وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الماء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله} [البقرة: 74] والثالث أنه من تتمة التمثيل على معنى أن البحرين وإن اشتركا في بعض الفوائد تفاوتًا فيما هو المقصود بالذات لأن أحدهما خالطه ما لم يبقه على صفاء فطرته كذلك المؤمن والكافر وان اتفق اتفاقهمافي بعض المكارم كالشجاعة والسخاوة متفاوتان فيما هو الأصل لبقاء أحدهما على الفطرة الأصلية دون الآخر فجملة {وَمِن كُلّ} إلخ حالية، وعندي خير الأوجه الثلاثة أوسطها، وعلى كل يحصل الجواب عما قيل كيف يناسب ذكر منافع البحر الملح وقد شبه به الكافر؟ وقال أبو حيان: إن قوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِى البحران} إلخ لبيان ما يستدل به كل عاقل على أنه مما لا مدخل لصنم فيه.
وقال الإمام: الأظهر أنه دليل لكمال قدرة الله عز وجل، وما ذكرنا أولًا من أنه تمثيل للمؤمن والكافر هو المشهور رواية ودراية وفيه من محاسن البلاغة ما فيه {وَتَرَى الفلك} السفن {فِيهِ} أي في كل منعما وانظر هل يحسن رجوع الضمير للحبر الملح لانسياق الذهن إليه من قوله سبحانه: {وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} بناء على أن المعروف استخراجها منه خاصة وأمر الفلك فيه أعظم من أمرها في البحر العذب ولذا اقتصر على رؤية الفلك فيه على الحال التي ذكر الله تعالى، وأفرد ضمير الخطاب مع جمعه فيما سبق وما لحق لأن الخطاب لكل أحد تتأتى منه الرؤية دون المنتفعين بالبحرين فقط {مَوَاخِرَ} شواق للماء يجريها مقبلة ومدبرة بريح واحدة فالمخر الشق.
قال الراغب: يقال مخرت السفينة مخرًا ومخورًا إذا شقت الماء بجوجئها، وفي الكشاف يقال: مخرت السفينة الماء ويقال للسحاب بنات مخر لأنها تمخر الهواء، والسفن الذي اشتقت منه السفينة قريب من المخر لأنها تسفن الماء كأنها تقشره كما تمخره، وقيل المخر صوت جرى الفلك وجاء في سورة النحل {وَتَرَى الفلك مَوَاخِرَ فِيهِ} بتقديم {مَوَاخِرَ} وتأخير {فِيهِ} وعكس هاهنا فقيل في وجه لأنه علق {فِيهِ} هنا بترى وثمت واخر، ولا يحسم مادة السؤال.
والذي يظهر لي في ذلك أن آية النحل سيقت لتعداد النعم كما يؤذن بذاك سوابقها ولواحقها وتعقيب الآيات بقوله سبحانه: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] فكان الأهم هناك تقديم ما هو نعمة وهو مخر الفلك للماء بخلاف ما هنا فإنه إنما سيق استطرادًا أو تتمة للتمثيل كما علمت آنفًا فقدم فيه {فِيهِ} إيذانًا بأنه ليس المقصود بالذات ذلك، وكأن الاهتمام بما هن اقتضى أن يقال في تلك الآية {وَلِتَبْتَغُواْ} بالواو، ومخالفة ما هنا لذلك اقتضت ترك الواو في قوله سبحانه: {لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} أي من فضل الله تعالى بالنقلة فيها وهو سبحانه وإن لم يجر له ذكر في الآية فقد جرى له تاعلى ذكر فيما قبلها ولو لم يجر لم يشكل لدلالة المعنى عليه عز شأنه.
واللام متعلقة واخر، وجوز تعلقها حذوف دل عليه الأفعال المذكرة كسخر البحرين وهيأهما أو فعل ذلك {لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} تعرفون حقوقه تعالى فتقومون بطاعته عز وجل وتوحيده سبحانه.
ولعل للتعليل على ما عليه جمع من الأجلة وقد قدمنا ذلك، وقال كثير: هي للترجي ولما كان محالًا عليه تعالى كان المراد اقتضاء ما ذكر من النعم للشكر حتى كأن كل أحد يترجاه من المنعم عليه بها فهو تمثيل يؤل إلى أمره تاعلى بالشكر للمخاطبين.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8